في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٨

د. محمد جلال هاشم - 01-08-2020
في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٨ | د. محمد جلال هاشم

الحلقة رقم (8)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية


إعلان دولة الأبارتايد والفصل العنصري في السّودان
في السّودان تحوّلت العنصريّة الاجتماعيّة إلى عنصريّة بنيويّة عندما تمّ انفصال جنوب السّودان. فقد أشارت اتّفاقيّة نيفاشا إلى حقّ تقرير المصير لجنوب السّودانيّين حيث يقوم الجنوبيّون بالتّصويت لتقرير مصيرهم. ولنلاحظ أنّ كلمة "جنوبي" هنا حتّى تلك اللحظة لم يكن لها أيّ مدلول قانوني، بل كانت مجرّد كلمة شعبيّة. فقد يلتقي الواحد منّا بشخص تُشير ملامحُه إلى تشابه كبير مع أهل الجنوب (في عموم لونهم الفاحم)، بينما هو من أقصى شمال السّودان وهكذا دواليك. إلاّ أنّ وضع وإجازة قانون استفتاء مصير جنوب السّودان قام ولأوّل مرّة بإسباغ الصّفة القانونيّة لمن هو الجنوبي حيث نصّ على أنّ من سيقومون بالتّصويت في ذلك الاستفتاء هم السّودانيّون الذين ظلّوا يعيشون بصورة دائمة ومستمرّة داخل الحدود الجغرافيّة للولايات الجنوبية لفترة الخمس سنوات التي تسبق إجراء استفتاء المصير. وهذا يعني أنّ التّعريف القانوني لمن هو الجنوبي لم يعتمد على السلالات المعروف بأنّ إقليم جنوب السّودان هو موطنُها الأصلي، مثل الدّينكا والأنواك والباريا والتبوسا والمنداري والمورلي .. إلخ، بل يستحقّ صفة الجنوبي كلّ سوداني عاش في الجنوب لفترة الخمس سنوات التي سبقت إجراء الاستفتاء، بصرف النّظر عن خلفيّته السّلاليّة (القبيلة)، أكان من الجعليّين أو الفور أو المسيريّة أو الزّغاوة أو البجا. ثمّ جاءت تفصيلة أخرى في القانون تقول بأنّ أيّ سوداني يعيش في شمال السّودان وفي مقدوره أن يرجع بأصوله السّلاليّة إلى إحدى المجموعات الإثنيّة المعروف عنها أن الجنوب هو موطنها يمكنه أيضاً المشاركة في استفتاء مصير السّودان شريطةً أن يقوم بتسجيل اسمه في سجلّ استفتاء مصير جنوب السّودان.
من بين أربعة مليون إلى خمسة مليون (على أقلّ تقدير) هم التقديرات المتواضعة لعدد السّودانيّين الذين يعيشون في شمال السّودان بينما ترجع أصولُهم الإثنيّة إلى الجنوب، قام 160 ألف فقط بتسجيل أسمائهم في سجلّ استفتاء مصير جنوب السّودان. ويعني هذا في أحد دلالاته وبطريقة غير رسميّة أنّ عدد الجنوبيّين بشمال السّودان لا يتجاوز هذا الرّقم. إلاّ أنّ ما يعنيه هذا بموجب ذلك القانون أنّ جميع السّودانيّين الذين يعيشون بشمال السّودان ويمكنهم أن يعودوا بأصولهم إلى الجنوب غير معنيّين كسودانيّين شماليّين بذلك الاستفتاء ولا بنتائجه كونهم لم يشاركوا في اتّفاقيّة نيفاشا التي أتت بالاستفتاء كما لم يقوموا بتسجيل أسمائهم في سجلّ الذين يحقّ لهم التّصويت في ذلك الاستفتاء، وبالتّالي لم يشاركوا فيه. وعليه، بموجب الدّستور والقانون، سيظلّ هؤلاء على سودانيّتهم الشّماليّة بالرّغم من حقيقة أنّ أصولهم الإثنيّة تعود إلى جنوب السّودان.
إلاّ أنّ ما فعلته دولةُ الإنقاذ هو تجريد أيّ شخص تعود أصوله الإثنيّة للجنوب من حقوق المواطنة السّودانيّة بصرف النّظر أكان قد شارك في التّصويت في استفتاء تقرير مصير الجنوب أم أنّه لم يشارك ويعيش في الشّمال كأيّ سوداني شمالي. وهذا، بجانب مخالفته لكلا الدّستور وقانون الجنسيّة، قد فارق القاعدة الفقهيّة القانونيّة التي تمنع تطبيق القانون بأثر رجعي. فكلّ التّعديلات الدّستوريّة والقانونيّة تمّت بعد أن وقع الانفصال، وليس قبله (راجع الفصل السّادس بعنوان "إعلان دولة التّمييز العنصري بالشّمال" في كتابنا: منهج التّحليل الثّقافي: صراع الهامش والمركز، 2014؛ وكذلك مقالنا بالعربيّة بتاريخ 2011، ثمّ مقالاتنا بالإنكليزيّة مثل 2011a و2011b).
وهكذا، بين عشيّةٍ وضحاها، تمّ ذبح حقوق المواطنة لما يفوق الأربعة مليون سوداني، على اقلّ تقدير، على أساس عنصري بحت، فأصبحوا بلا حقوق، دون أن يُحرّك هذا ساكن الضّمير السّوداني لجميع قطاعات الشّعب السّوداني (بأحزابها ومنظمّات مجتمعها المدنيّة، بمختلف ألوان طيفها السّياسيّة) المتواطئة أيديولوجيّاً مع نظام الإنقاذ كونها تنتمي بدرجة أو بأخرى للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة التي تخدم كقاعدة لهذه العنصريّة. وهكذا عبر السّودان من إنتاج ورعاية العنصريّة الاجتماعيّة إلى طور العنصريّة البنيويّة وكأنّ شيئاً لم يكن.
وللمرء أن يعجب: كم هو يا تُرى رقم الضّحايا المطلوب لتحريك ضمير الشّعب؟ فإذا حسبنا ضحايا العنصريّة والتّمييز العرقي، مضافاً إليهم عدد ضحايا الحروب الأيديولوجيّة التي شنّها حملةُ الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة ضدّ الشّعب السّوداني، حيث بلغ عدد ضحايا التّمييز ما يفوق العشر مليون ضحيّة على أقلّ تقدير، بينما بلغ عدد قتلى هذه الحروب الخمس مليون ضحيّة على أقلّ تقدير، أي 15 مليون ضحيّة ما بين مُميَّز ضدّ وما بين مقتول، على أقلّ تقدير، كلّ هذا دون أن يكون لهذا تأثير على الضّمير السّوداني الواقع تحت سطوة وسيطرة الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، فكم يا ترى هو العدد الكافي لتحريك هذا الضّمير الذي يحقّ للكثيرين في أن يتشكّكوا في وجوده أصلاً، بينما نعلم نحن وجودَه بمثلما نعلم استغراقه في سُبات عمييييق بمعر القرون!

كيف نواجه العنصرية الصادرة من الأفراد والجماعات والبلدان؟
بالطبع، هناك الكثير من الناس يسخطون لحال بلدان يؤذيهم مواطنوها أو بعضهم، بمثلما تؤذيهم جنسيّتُها، بدلاً عن أن تنفعهم. مثلاً فلسطيني مضطر لحمل جنسية إسرائيل! فهل تكون الكراهية هنا مبرّرة؟ دعونا نأخذ عنصرية الشارع اللبناني تجاه السودانيين (على عمومية كلمة "الشارع" هذي)، أو ما فعلته بعض القطاعات بليبيا في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين حيث أعادت مؤسّسة الرّقّ وفتحت لها مزاداتها العلنية لشراء وبيع الأفارقة السود، وكان مِن بين مَن بيعوا سودانيون. هل يستحقّ الليبيون أن يكرههم الأفارقة السود بسبب ما فعلوه؟ في حالة الفسلطيني، مع استحقاق الدّولة لعدم حبِّه، يبقى السؤال: كيف سيتم توزيع هذه الكراهية للشعب الإسرائيلي، وعلى أي أساس؟ بالطبع يتحمّل المجتمع الإسرائيلي في مجموعه ممثّلاً في دولته المسئولية الكاملة عما تقوم به دولتُهم إزاء الفلسطينيين، ولا اعتبار لكون حكوماتهم منتخبة، بل لكون الدولة هي صنيعة المجتمع. ولكن مع هذا لا يمكن أن نجرّد الفرد الإسرائيلي من حقه في الاستقلالية عن دولته وحكومته ومجمل المجتمع بحيث يحتفظ بإنسانيته التي يقع عليها مناط الإصلاح في المستقبل. أما في حالة الشعب الليبي، ومع كامل إقرارنا بأن أيديولوجيا الهوية عنده لا تُعتمل فيها النظرة العنصرية تجاه كل أفريقي أسود فحسب، بل تصل في إجمالها حد اعتبار كلّ أفريقي مجرّد عبد محتمل يمكن استرقاقه متى ما توفرت الظروف، فإننا أيضاً نقف أمام استحالة تجريم كل فرد ليبي لمجرد أنه ليبي. فالتجريم تستلزمه الأدلة وثبوتها فرديّاً ثم بعد ذلك جماعيّاً، لا الانتماء الثقافي والسلالي (الانتماء الإثني). هذا مع كامل تحميلنا للمجتمع الليبي في مجموعه مسئولية انتخاب أيديولوجيا عنصرية إلى هذا الحد ضد أفريقيا السوداء التي هم جزء منها. ذلك لأن مناط التغيير إنما يقع على الشعب.
وعلى هذا يمكن أن نقيس حالة فتى من جبال النوبة بالسودان، كره السودان والسودانيين، بعد أن واجه أهلُه عنف السلطة في منطقتهم، ثم رحل للمناطق الوسطية والشمالية النيلية فوجد الناس (على عمومية كلمة "الناس"، لكنّا نقبُلها بموجب وعيه بها) يحتقرونه وينظرون إليه كعبد ولا يأبهون لمظالم أهله عموماً، وبعد ذلك خرج من السودان لاعناً الحكومة والناس (عموما). فالسؤال هو: أليست هذه غضبة مظلوم؟ إنها غضبة مظلوم ما في ذلك شكّ، وهي نفسها الغضبة التي دفعت أهلنا بالجنوب لاتخاذ قرار الانفصال، لا بوصفه مشروعاً تحررياً، بل بوصفه إجراءً اقتصاصياً من أهل الشمال في مجموعهم (بما في ذلك أهلنا في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور الذين لا يزالون يتعرضون لما تعرض له الجنوب). وهذا هو نفسه الدافع الذي جعل من الدعوة لتقرير المصير تصبح جاذبةً في جبال النوبة والنيل الأزرق، وقريباً في دارفور، ذلك بموجب الحرب الأهلية التي فرضتها عليهم دولة بوتقة الانصهار القائمة على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. المهم في الأمر أن جميع هذه المظالم الفظيعة تجعل من المنطقي تولّد جملة أحاسيس سلبية، أقلّها الكراهية. ولكن، رغم منطقيتها لا يمكن إلغاء حقيقة بسيطة، ألا وهي أن المحاسبة وتحمّل المسئوليّة عن هذه الكراهية لا يمكن أن يكون بالجملة، وإلا أخذنا البريء بجناية الجاني، وبذلك وقعنا في الظلم من حيث أردنا ردّ الظلم. ولعلّنا لا نحتاج إلى التّذكير بأنّ العدالة لا تتجزّأ بمثلما لا يتجزّأ الحقّ
أخيراً، قد يتساءل سائل: ماذا عن الأوطان المعتدية على أوطان الآخرين، بحيث يصبح إصلاحها ضرورة لازمة لمصلحة الجميع؟ مثل النازية، ومراكز الإمبريالية والاستعمار الجديد؟ نعم، هذا الإصلاح ضروري ما في ذلك شكّ، وهو ما نحن بصدده، وهو نفسه ما واجهته أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية في مواجهاتها الإصلاحية ضد النازية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. ولكن جميع هذا يتم في مستويين، الأول هو التجريم القضائي (وهو فردي، إثباتي)، ثم الإصلاح الثقافي (وهو جمعي، تحليلي). كما لا بدّ لهذه العمليّة أن تتمّ في فضاء إنساني، وإن كان لا يقبل الظّلم، إلاّ أنّه يتفهّم صدوره من بني الإنسان، وبالتّالي يتعامل معه لتغييره تنمويّاً، لا من باب الانتقام والتّشفّي.